محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 26
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..
ذكرنا في الدرس الماضي الظروف الصعبة التي مرت على الإمام الحسن (عليه السلام) والتي وضعته أمام موقف صعب جداً لم يمر بها إمام إذ اضطر مع هذا الموقف إلى التصالح مع معاوية فكما رأينا في الدرس الماضي كيف أن الجيش العراقي قد تخاذل وبدأ ينسحب القادة واحداً بعد آخر لقاء بعض الدراهم المعدودة من معاوية وأيضاً ذكرنا تناقض المجتمع الكوفي وكيف أن هذا المجتمع أصبح مجتمعاً ينافق نفسه بنفسه الأمر الذي وضع الإمام الحسن (عليه السلام) في زاوية حادة فإما أن يباشر الحرب بنفسه وبفئة صغيرة جداً من أصحابه وهو لا يؤمن القتل غيلة ولا يسلم من الهزيمة لأنه يخوض حرباً خاسرة بأدق معنى هذه الكلمة إذ أن الخيانة أخذت تستشري في جسد ذلك الجيش حتى أن أمير الجيش عبيد الله بن عباس وجدناه كيف يترك الجيش بلا قائد ويذهب إلى معاوية أصبح الموقف صعباً للغاية وبات الإمام وهو على مفترق عدة طرق تنتهي هذه الطرق إما إلى أسره أو إلى عملية اغتيال مبيتة أو التسليم في حرب خاسرة أو إلقاء الحبل على الغارب ويغادر الميدان هارباً دون أن يكسب شيئا أو ينكر منكراً أو يغير باطلاً أو يحقق غاية وهو الهروب من المسؤولية كان الأمر صعب جداً بالنسبة إلى الإمام لذا وجدناه (سلام الله عليه) يلتجأ وهو يتجرع السم للصلح المشؤوم وهو صلح لم يرغب إليه ولم يرده ولم يدعو إليه وإنما معاوية نفسه الذي تسرع إلى الصلح وجند لهذا الأمر حملة إعلامية واسعة النطاق شملت العراق والجزيرة والشام إذ ذكر الأستاذ باقر شريف القرشي وأكبر الظن أن معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفاً من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرف به عن سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على الرأي.
ويقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى حول هذه الفترة وحول محاولات معاوية للتصالح ورغبته للصلح مع الإمام الحسن وقد عرض معاوية على الحسن ثلاثة أشياء أن يجعله ولي عهده وأن يحسن له مرتب سنوياً من بيت المال ألف ألف درهم وأن يترك له كورتين من فارس يرسل إليهما عماله ويصنع بهما ما يشاء ثم أعطى على نفسه العهد المؤكد أن يؤمن الحسن من كل غائلة ولم يف بهذه الشروط لأن فيها شيئاً لا يملكه معاوية برأيه وهو ولاية العهد ولأن ما أتى هذا من الشروط المالية نوعاً من الإغراء وليس به خطر عند الحسن فبيت مال العراق في يده و كورة فارس في يده أيضاً وقد أهمل معاوية في كتابه شيئاً هو أخطر من كل ما ذكره وهو تأمين أصحاب الحسن الذين حاربوا مع علي وهموا بالحرب مع الحسن نفسه فاحتفظ الحسن بشروط معاوية وطلب إلى معاوية مزيداً هوتأمين الناس ولكن معاوية كان أدهى من ذلك وابرع كيدا فقد أعطى ابن أخيه دينارا ختم في أسفله وقال للحسن اكتب ما شئت هذا ما ذكره طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى في الجزء الثاني) ص188.
تسلم الإمام الحسن كتاب معاوية ثم أنه رد عليه بكتاب آخر وقد اختلفت الروايات في الكتاب الذي أملاه الإمام الحسن ودفع به إلى معاوية هناك رواية ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب ذكر قائلاً إن الإمام كتب إلى معاوية يخبره أنه يسير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه.
فأجابه معاوية إلى ذلك إلا انه قال أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول إني آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبداً وأنت تطلب قيساً أو غيره بتبعة قلت أو كثرت فبعث إليه معاوية حينئذ برقٍ أبيض وقال اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه فاصطلح على ذلك واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر بعده فالتزم ذلك كله معاوية وهذه الرواية أقرب إلى واقع الأحداث وما ذكر فيها مقارب لصميم الموضوع الذي اهتم به الإمام الحسن هو تأمينه لأصحابه وأهل بيته من الحكم الأموي.
فقد أكد الإمام على مبدأ استئمان أولئك النفر من شيعة أبيه واشترط أن يكون الأمر لهم من بعد معاوية وإن كان معاوية لا يملك ذلك لنفسه ولا لغيره حسب الدين الإسلامي الحنيف ولكنه خاطبه بمنطقه بمنطق الفاسق ولم يكتفي الإمام الحسن بهذا القدر وإنما صاغ معاهدة دقيقة نشر فيها شروطه على ضوء ما عليه القيادة الصالحة وحسب ما ذكرته أوثق المصادر العربية اشترط الإمام الحسن هذه الشروط:
الشرط الأول: العمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين وأن لا يعهد لأحد من بعده عهدا.
الشرط الثاني: أن يكون الأمر من بعده للحسن بن علي وبعده للحسين بن علي.
الشرط الثالث: أن لا يسميه الإمام الحسن أمير المؤمنين.
الشرط الرابع: أن يترك معاوية سب أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام).
الشرط الخامس: أن يأمن معاوية الناس جميعاً.
الشرط السادس: أن يستوفي كل من قتل مع أمير المؤمنين في الجمل وصفين جميع حقوقهم المالية بما يعادل ألف ألف درهم.
الشرط السابع أن لا يبغي معاوية الغوائل لأهل البيت سراً وجهرا.
هذه هي بعض أهم فقرات المعاهدة التي اشترط الإمام الحسن شروطه على معاوية في كتاب العهد الذي كان بينهما.
والسؤال الذي نسأله انه ماذا كان يستطيع الإمام أن يفعل اكثر من هذا في ذلك المناخ السياسي والعسكري الذي ذكرناه في ضوء ما بينا من مواقف الرجال في تلك الفترة العصيبة التي مر بها الإمام وهذا موقف الإمام في سلامة من دينه وثقة من أمره وقف وقفة الرجال يصارع معاوية صراعاً لا هوادة فيه أخذ الإقرار من معاوية على نفسه وتعهد بتلك العهود وأجبره على أن يبرم العقد بشروط وضعها الإمام بنفسه وقد أشهد الناس عليه وهذا موقف واضح لا لف فيه ولا دوران وإنما جعل سجيته في ضوء تعليمات الإسلام فقد تم الصلح على جملة هذه الفقرات الدقيقة ودخل معاوية الكوفة فاتحاً لم يرزأ بشيء ودخل الإمام الحسن صابراً محتسباً حتى يبلغ الكتاب أجله وعندما كان في المدائن يعالج جراحه عندما شفي من تلك الجراح تقدم الإمام نحو المنبر وخطب في الناس قائلاً:
أيها الناس إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور إن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه وقد بايعته وقد رأيت أن حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم وأن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين حينها علت أصوات الاستنكار والاحتجاج من كل جانب وأخذ البعض يتأسف ويتألم وبدأت تظهر نتائج موقف الإمام الحسن بدأ الإمام الحسن ينتصر سياسياً على معاوية بدأ الانتصار يلوح في الأفق عندما وقف معاوية في مسجد الكوفة خاطباً قائلاً: يا أهل الكوفة إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا وإنكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون ألا وإني قد منيت الحسن بن علي أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها .
هكذا كشف معاوية عن حقيقته هكذا تبين للناس من هو معاوية ما هي حقيقة معاوية وحقيقة حكمه ربما كانت هذه الحقيقة مغلفة من ذي قبل إذ أن معاوية كان له من رجال الإعلام من يغيرون له الحقائق ويقلبون له الأمور هكذا بين معاوية أهدافه انه لم يقاتل من أجل الصلاة ولا من أجل الصوم ليس من أجل الإسلام قتاله بل هدفه الأول والأخير هو الحكم.
أما غدره بشروط الصلح مع الإمام الحسن فظاهر واضح للعيان وقد أخذ الإمام عليه المواثيق والأيمان لا يمت إلى الإسلام بصلة لا من قريب ولا من بعيد وكان هذا بحد ذاته نصراً مؤزراً للإمام الحسن فقد بين في هذا الموقف تبين أخلاق أعداءه وأنهم لا دين لهم فقد أفاق الناس من غفوتهم وأخذوا يكتشفون الحقيقة يكتشفون من هو الحسن ومن هو معاوية فاندفع قيس بن سعد بن عبادة ليقول بعد ما اتم معاوية خطابه قائلاً :
لقد اعتضدتم الشر من الخير واستبدلتم الذل من العز والكفر من الإيمان فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول رب العالمين وقد وليكم الطليق ابن الطليق يسومكم الخسف ويسير فيكم بالسيف فكيف تجهل ذلك أنفسكم أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون قال قيس قوله هذا بمسمع وبمشهد من معاوية وبمنتدى ومجمع من الكوفيين فقام معاوية وأكب على قيس ومسح يده وقيس لم يرفع يدا ولم يخفض رأساً واستسلم للمقادير مؤقتاً ولا يخالف نهج الإمام بل ليتخذ مع الإمام موقفاً جديداً في واقع جديد وكان من بديهي جداً أن يواجه الإمام بشيء من المعارضة العلنية أو الخفية وأن يقابل بشيء من السخط وعدم الرضا قد يدفع به الولاء للإمام حيناً وقد يتأتى من التفكير المضاد في المصير المؤلم وكلاهما ينبعان من مصدر الإخلاص للمبادئ ولكن ذلك كان من قليل الاندفاع اللاشعوري العاطفي الذي ربما يتجاوز الحد وربما تجاوز في بعض المرات حدود الأدب واللياقة نجد البعض جاء إلى الحسين قائلاً دع الحسن وما رأى من هذا الصلح وأجمع لك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها وولني وصاحبي هذه المقدمة فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف هذا ما قاله أحدهم إلى الإمام الحسين.
وأما عدي بن حاتم هذا الصحابي الجليل هذا الذي كان يمتلأ قلبه أساً وألماً استولت عليه المشاعر الجياشة فهتف صارخاً قائلاً للإمام أما والله لوددت أنك ميت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم فإنا رجعنا راغبين مما كرهنا ورجعوا مسرورين بما أحبوا والإمام يجيب عن كل هذه الانفعالات والتساؤلات إجابات إقناعية يطيب بها خواطر الناس فقد خطب في مسجد الكوفة قائلاً إن هذا الأمر الذي سلمته لمعاوية إما أن يكون حق رجل كان أحق به مني فأخذ حقه وإما أن يكون حقي فتركته لصلاح أمة محمد وحقن دمائهم فالحمد لله الذي أكرم بنا أولكم وحقن دماء آخركم وكان الإمام عظيماً في حلمه عندما كان يسمع لكلمات أصحابه القارصة وهو لا يحفل بها بل كان يقابل تلك الإساءات بالإغضاء حيناً وباستئناف الحرب حيناً آخر لقد استمع الإمام إلى أحد أصحابه وهو يقول له: السلام عليك يا مذل المؤمنين واستمع الى من يقول له السلام عليك يا مذل العرب لكنه قابل ذلك كله بالصدر الرحب وبمنطق سليم فقد وقف ليقول إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما فإن الله كل يوم هو في شأن ذكره الدنيوري في الأخبار الطوال ص203.
استطال هذا الاحتجاج على الإمام وهو لا يعبأ به وجمع أهل بيته وعيالاته وغادر الكوفة إلى المدينة بعد أن أعذر في الخطاب وصرح بدقة متناهية في البيان قائلاً والله ما سلمت الأمر إلا لأني لم أجد أنصاراً ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينهم ولكن عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً وإنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل إنهم لمختلفون ويقولون لنا إن قلوبهم معنا وإن سيوفهم لمشهورة علينا
بهذه الكلمات المعبرة ختم الإمام الحسن أقواله في الكوفة وحسم مادة النزاع فخرج من الكوفة بتلك الصورة ودخل معاوية الكوفة منتصراً فيما يزعم لكن ما هي إلا أيام حتى أخذ الأمر ينتقض عليه من بعض جوانبه وبدأت ثورة الخوارج ضد معاوية فكتب معاوية إلى الإمام الحسن وهو في طريقه إلى المدينة أن يعود إلى الكوفة ليتولى قيادة الجيش في حرب الخوارج وبذلك يتخلص من الفريقين يتخلص من الإمام الحسن ويتخلص من الخوارج في وقت واحد فكتب إليه الإمام قائلاً: لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دماءها ذكره ابن الأثير في الكامل ج2 ص208.
ثم إن الإمام الحسن (عليه السلام) ألقى رحله في المدينة المنورة لا ليهدأ ويستقر بل ليعمل جاهداً في ضوء واجبه الرسالي وقد ساعده على هذا العمل تنبه أهل الكوفة بسيرة معاوية فقد وجدوا فيه حاكماً جائراً لم يروا مثله وقد لمسوا تحت ظل حكمه الذل والمهانة ما لم يتوقعوا وإذا بمعاوية يتحول إلى رمز للطغيان وإذا بولاته يتمثلون بالجبابرة الطغاة وإذا بأهل العراق يتحولون إلى فريسة لعذابات بني أمية ولاضطهادهم وحرمانهم فحنوا حنين الإبل إلى حياة أمير المؤمنين إلى أيام علي (عليه السلام) فندموا على ما فرطوا في جنب أهل البيت ندماً شديداً لقد سامهم معاوية كأساً مصبّرة من الذل والمهانة وما هي إلا فترة قصيرة إلا وينهار بنيان دولتهم وعاصمتهم في الكوفة وانتقلت الرئاسة إلى الشام ونقلت بيت المال إلى دمشق وانتهت أيام العز والرخاء وأقبلت الفتن السوداء تصبحهم وتمسيهم فعادوا تابعين أذلاء بعد أن كانوا متبوعين أعزاء وأصبحوا رعية يساسون بعد أن كانوا قادة يسوسون ورأوا في معاوية غولاً يلتهم كل شيء ولا يمنحهم أي شيء فأخذوا يفكرون تفكيراً أساسياً في التغيير وما كان ذلك التغيير ليحدث طالما كان معاوية في الوجود إلى أن مات معاوية وانتقلت الخلافة إلى يزيد وهنا نختم حياةالامام الحسن السياسية.