محاضرات التاريخ الإسلامي2 - المحاضرة 19
قال العرني بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي ركب فقال أتبيع جملك، قلت، قال: بكم قلت بألف درهم. قال امجنون أنت، قلت ولم، والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد الا فته قال: لو تعلم لمن نريده انما نريده لأم المؤمنين عائشة فقلت خذه بغيرثمن. قال: بل ترجع معنا الى الرجل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية واربعمائة درهم أو ستمائة وقالوا لي يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس، قالوا فسر معنا، فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب وهو ماء فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ قلت هذا ماء الحوأب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت إنا لله وانا اليه راجعون. إني لهيه سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول وعنده نساؤه "ليت شعري ايتكن تنبحها كلاب الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة " فقال لها عبد الله بن الزبير إنه كذب(1).
ومرة أخرى الغاية تبرر الواسطة (إنه كذب) فلم تصدق عائشة كلام ابن الزبير فجاء لها بخمسين شاهداً شهدوا بأن المكان ليس ماء الحوأب.
وهنا خشي عبد الله أن ينتشر مقالة عائشة بين افراد الجيش فتتزعزع معنوياتهم فينفلت الزمام من أيديهم. فما كان منه الا ورفع صوته.. النجاة النجاة قد أدرككم علي بن ابي طالب فارتحلوا نحو البصرة(2) وبهذه الحيلة استطاع عبد الله أن يغيرمسار الوضع داخل الجيش فنجح في خطته لكن بقي في نفس عائشة انها موعودة من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الموقف الخاطىء ومما زاد في زعزعة موقفها، الكلام الصريح الذي ما انفكت وهي تسمعه من الناصحين لها فهذا جارية بن قدامة السعدي جاءها بعد أن خطبت خطبتها التي دافعت فيها عن عثمان وطالبت الأخذ بثاره، قال لها بأدب بالغ.
يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على الجمل الملعون عرضة للسلاح إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وابحت حرمتك إنه من رأى قتالك يرى قتلك لئن كنت اتيتنا طائعة فارجعي الى منزلك وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
ولم تكن مجابهة طلحة والزبير للمعارضة العنيفة داخل قواتها بأقل من مجابهة أم المؤمنين عائشة فيذكر ابن الأثير.
وخرج غلام شاب من بني سعد الى طلحة والزبيرفقال أما أنت يا زبير فحواري رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأما أنت ياطلحة فوقيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بيدك وارى امكما معكما فهل جئتما بنسائكما قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء واعتزل(3).
وقضية اخرى يذكرها ابن الأثيرأيضاً تكشف عن الحالة المعنوية داخل معسكر الجمل.
يذكر ان عائشة كتبت الى زيد بن صوحان أما بعد فاذا أتاك كتابي هذا فأقدم فانصرنا فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علي.
فكتب اليها. أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت الى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك(4).
مما تقدم نستدل بأن حركة المعارضة في داخل معسكر الجمل، كانت حركة صادقة لانها كانت طبيعية قائمة على المنطق ويقر بها كل صاحب عقل.
وقد زاد من قوة هذه الحركة أخطاء قادة التمرد ومحاولاتهم اليائسة في التسترعلى الحقيقة وموقفهم الرخيص من عثمان بن حنيف والي البصرة فقد فعلوا به ما فعلوا بعد أن أعطوه الأمان فلم يكونوا صادقين ويذكر ان حكيم بن جبلة عندما بلغه ما صنع بعثمان بن حنيف، قال: لست اخاف الله إن لم أنصره فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق وبها طعام أراد عبد الله الزبير ان يرزقه أصحابه، فقال له عبد الله مالك يا حكيم قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخفوا عثمان فيقيم في دار الأمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، وأيم الله لو أجد أعواناً عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال بدم عثمان. قال فالذي قتلتم هم قتلة عثمان! أما تخافون مقت الله، فقال له عبد الله لا نرزقكم في هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع علياً فقال حكيم:
اللهم إنك حكم عدل فاشهد وقال لأصحابه لست في شك من قتال هؤلاء القوم(5) وليست هذه هي المرة الأولى التي يفتقر فيها ابن الزبير الى الحجة، فلا يرى جواباًً الا التوسل بأساليب التعنت والقوة. وقد خسر معسكر الجمل الكثير من الأنصار، والكثير ممن سيقف الى جانبهم لانهم لم يقفوا في صراعهم مع علي موقفاً سليما ولم تكن لهم أية حجة أو بينة يحتجون بها أمام المؤيدين أو المجاهدين. أما الذين أيدوهم فكان بسبب الطمع أو الخوف أو الجهل، بدليل انهم لم يجدوا فرداً واحداً يحبذ الاقدام نحو قتال علي(عليه السلام) بعد أن صفت الأمور لصالحهم في البصرة.
فيذكر ابن الأثير بايع أهل البصرة طلحة والزبير فلما بايعوها قال الزبير: الا ألف فارس أسير بهم الى علي أقتله بياتاً أو صباحاً قبل أن يصل الينا، فلم يجبه أحد فقال إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها: قال ويلك إنا نبصر ولا تبصر ما كان أمر قط الا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فاني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر(6).
مقومات الإعلام في معسكر الجمل
وأمام هذه الشكوك كان لابد من خطوة اعلامية سريعة لاعادة المعنويات وتقويتها فالجيش الذي بلا معنويات كجسد بلا روح.
وقفت عائشة وتكلمت.
وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستثيروننا فيما يخبروننا عنهم. فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترة ولا عذر. الا إن مما ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت (الم تر الى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون الى كتاب الله) ويلاحظ في هذه الخطبة التي يشكل خطابآ سياسيآ لمعسكر الجمل انها تتناقض ووقائع الأحداث. فليس هناك في المدينة من لايدري بمواقف عائشة وتحريضها المستمر ضد الخليفة عثمان.
فقد لقيها وهي خارجة من مكة عبيد بن أبي سلمة وهو أحد أخوالها، فقالت له : مهيم قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً، قالت ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا بيعة علي فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه ان تم الأمر لصاحبك! ردوني، ردوني، ردوني فانصرفت الى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً والله لأطلبن بدمه فقال لها: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت. ولقد كنت تقولين: أقتلوا نعثلاً فقد كفر.
قالت انهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن أم كلاب.
فمنك البداء ومنك الغيـر*****ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الامام*****وقلت لنا إنه قد كفــــــــر
فهبنا أطعناك في قتلــه*****وقاتله عندنا من أمــــر(7).
فكيف تستطيع السيدة عائشة وهي بهذا الماضي أن تتهم الامام علي بأنه السبب في قتل الخليفة وكل المسلمين يشهدون بالمواقف النبيلة التي وقفها الامام علي ازاء الخليفة عثمان ودفاعه المستميت عنه وارساله ابنيه الحسن والحسين الى بيت الخليفة لمنع الثائرين من الهجوم عليه وانقسم الناس ازاء خطاب السيدة عائشة.
فرقة قالت صدقت وبرت وقال الآخرون كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به(8).
وبعد استعراض الخطب والمواقف في معسكر الجمل يمكننا أن نسجل بعض النقاط الهامة في نهاية الحديث.
ا- إن معسكر الجمل كان يمثل حركة تمرد على الشرعية وهذه حقيقة ملموسة من الخطب والمقولات والمحاورات التي تمت على هامش المعركة والتي تقدم الحديث حولها.
2- لم يعط قادة هذا المعسكر أي مبرر شرعي أو عقلي لمعركتهم ولم تستطع الخطب والاحتجاجات أن تفي بالغرض الأمر الذي أدى الى هبوط في المعنويات.
3- مهندس حركة التمرد هو عبد الله بن الزبير وعمره يومذاك 36 عاماً وكان يدفعه الى التخطيط والمثابرة في تنفيذ خطة الحرب طموحه الكبيرة. وآماله الواسعة في الخلافة.
فكان يدفع بالأوضاع وبالظروف الى التفجير. وكنت تجده خلف كواليس الحرب في كل عقدة مستعصية، كان يعمل بهمة وبنشاط كبير في تسعير الوضع لصالح الحرب في كل موقف يستدعي السلام وكان الى جانب عبد الله بن الزبير هناك شخص متآمر آخرهو مروان بن الحكم يدفعه الى المشاركة في الحرب مصالحه الشخصية وحبه لأن يصبح له نصيب في الخلافة. ليس المهم مع من يكون. بل المهم أن يكون في المكان المناسب حيث يستطيع أن يلعب دوراً في التآمر. وكاد يتآمر ايضاً على قائدي التمرد طلحة والزبير عندما وقف بينهما ليقول على أيكم اسلم بالأمرة وأذن بالصلاة.
ومروان هذا كان يخطط لاعادة الخلافة الى بني أمية فكان يقول: فلا اراني اسعى إلا لاخراجها من بني عبد مناف. وقد وجد في حركة الزبيروطلحة الفرصة الذهبية لتنفيذ مآربه ومطامعه الشخصية. لقد واصل مروان الدور الذي لعبه في عهد الخليفة عثمان وثابر على خطته حتى استطاع أن يتسلق على سلم الخلافة بعد اقل من ربع قرن.
ماذا في جبهة الإمام علي (عليه السلام)؟
واذا اردنا أن نحلل الرجال والمواقف في معسكر علي (عليه السلام) لسجلنا هذه ا لنقا ط.
1- كان في معسكر الإمام علي (عليه السلام) من الرجال من يحمل اشارة واضحة من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه على حق وإن وجوده في أية جبهة يكفي للدلالة على أن تلك الجبهة على حق، من هؤلاء عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله يا عمار تقتلك الفئة الباغية(9) وذكر ابن الأثير ان الزبير عاد عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر مع علي فخاف أن يقتل عماراً فيكون اصحابه هم الفئة الباغية.
2- قناعة أصحاب علي (عليه السلام) بأنهم على حق، على عكس اصحاب الجمل حيث كانت قناعاتهم متزعزعة كما مر سلفاً في الحوار الذي دار بين الزبير ومولاه.
إسمعوا الى ابي قتادة الأنصاري وهو يقول لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قلدني هذا السيف وقد أغمدتة زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشاً وقد أحببت أن تقدمني فقدمني(10).
واسمعوا الى أم سلمة وهي تقول يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وانك لاتقبله مني لخرجث معك وهذا ابن عمي وهو أعز علي من نفسي يخرج معك ويشهد مشاهدك(11).
3- أشبعت حرب الجمل بخطب كثيرة للامام أمير المؤمنين، فعندما يطمئن القائد من مواقفه الحقة يجد في لسانه القوة حتى يقول للناس الحقيقة كما هي وبكل وضوح.
فهذا علي مقاتل بالسيف ومحارب باللسان.
فلسانه وسيفه لا يتحركان الا من مكان واحد ولا يأتمران الا من قلب واحد ملأ بالبطولة والثقة العالية بالنفس.
كان يردد دائما هذه العبارة.
زحم الله رجلاً رأى حقاً فأعان عليه أو رأى جوراً فرده، وكان عوناً بالحق على صاحبه(12) وكان يترك للناس تشخيص الحق ويعينهم في بعض الأحيان. فهناك من يجهل الحقيقة أو يجهل جزءاً منها.
كتب الى أهل الكوفة.
أما بعد فاني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه إن الناس طعنوا عليه. فكنت رجلاً من المهاجرين أكثر استعتابه وأقل عتابه. وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف وارفق جدائهما العنيف، وكان من عائشة فيه ملته غضب فأتيح له قوم فقتلوه.
بهذه الدقة يضع الإمام النقاط على الحروف.
وعن مطالبتهم بدم عثمان يقول الامام.
وإنهم ليطلبون حقاًهم تركوه، ودماً هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه فإن لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إلا عندهم، وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم يرتضعون أماً قد فطمت ويحيون بدعة قد أميتت، ياخيبة الداعي، من دعا، وإلام أجيب وإني لراض بحجة الله عليهم وعلمه فيهم(13) هكذا الأعلام الرصين الذي يستند الى ارضية قوية والى إيمان راسخ بأن الله هو العون وهو السند.
وأمير المؤمنين(عليه السلام) لايوكل الأمر الى عقول الناس وحسب بل يحاول أن يساعدهم على التفكير فيجلس مع الناس يحلل الأمور ويضع الاحتمالات ويبني النتائج، فعندما بلغه خروج طلحة والزبير وقف بين أصحابه ليقول لهم.
قد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب وانا على ما قد وعدني ربي من النصر والله ما أستعجل متجرداً للطلب بدم عثمان الا خوفاً من أن يطالب بدمه لأنه مظنته ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه ليلتبس الامر. ويقع الشك ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث لئن كان ابن عفان ظالما. كما كان يزعم لقد كان ينبغي له أن يؤازر قاتليه وأن ينابذ ناصريه ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذرين فيه، ولئن كان في شك من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه فما فعل واحدة من الثلاث وجاء بأمر لم يعرف بابه ولم تسلم معاذيره(14).
فأين هذا المنطق عن منطق الزبير، فاني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر فالفرق بين المقالتين هو الفرق بين الحق والباطل فعلي الذي يقف الى جانب الحق له قوة في المنطق ورصانة في الخطاب بينما الذي يقف الى جانب الباطل مهما كان بليغاً فان منطقه سيكون واهياً متذبذباً لا يكاد يقف على قدمه لحظة واحدة وكان للأعلام دوراً هاماً في تعبئة الطاقات الخيرة نحو مواجهة حركة التمرد.
السياسة السلمية في مواجهة حركة التمرد
ذكرنا فيما سبق ان الامام علي (عليه السلام) عالج حركة التمرد معالجة تربوية وكأنه أب يتعامل مع ابنائه الأشقياء. فهو لم يتعامل على اساس كونه حاكم يرى ان من واجبه تهدئة الأوضاع بالقوة. فهو لايخاف على شيء يخسره. فالحكم لارغبة له فيه إلا إذا كان وسيلة لاحقاق الحق وابطال الباطل. كما وانه وافق على المسؤولية لأنها ستمنحه فرصة لتصحيح الأخطاء وتوجيه الناس الى ما فيه الخير وا لصلاح.
فعلي(عليه السلام) ليس متلهفاً للحكم فلو كان كذلك لواجه المتمردين بقوة السلاح من أول لحظة حتى لايستشري وجودهم ويطغى.
لقد اراد الامام(عليه السلام) الحكم من أجل اعادة المبادىء الى مواقعها من المسيرة الإسلامية وعلى هذا الأساس المتين قامت سياسة الامام. فقد استندت الى ثلاثة مبادىء.
المبدأ الأول: تقديم النصح.
ما انفك الامام وهو يقدم النصيحة تلو النصيحة.
تحدث معهم بمنطق الأخ وهو يومذاك حاكم على بلاد المسلمين.
الم أكن أخاكم في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما.
وكان يخاطب الزبير وأنت يا زبير فارس قريش، ويخاطب طلحة: وأنت ياطلحة شيخ المهاجرين ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا منه كان أوسع لكما من خروجكما بعد اقراركما به(15).
ثم يفتح قلبه لهما ويذرف منه آهات الحسرة ياليتهم فهموا معانيها.
لقد نقمنا يسيراً وارجأتما كثيراً الا تخبراني، أي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه، أم أي قسم استاثرث عليكما به، أم اي حق رفعه الي أحد من المسلمين ضعفت عنه أم جهلته، أم أخطأت بابه. والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني اليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت الي نظرت الى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته وما استن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقتديته فلم أحتج في ذلك الى رأيكما ولا راي غيركما ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني من المسلمين(16) وكتب الى عائشة، أما بعد فانك خرجت من بيتك عاصية لله تعالى ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً ثم تزعمين انك تريدين الاصلاح بين الناس فخبريني ما للنساء وقود العساكر؟ وزعمت انك طالبة بدم عثمان وعثمان رجل من بني أمية وانت أمرأة من بني تيم بن مرة ولعمري إن الذي عرضك للبلاد وحملك على المعصية لأعظم اليك ذنبا من قتلة عثمان وما غضبت حتى أغضبت ولا هجت حتى هيجت فاتقي الله ياعائشة وارجعي الى منزلك واسبلي عليك سترك والسلام.
فجاء الجواب اليه: يا ابن ابي طالب جل الأمر عن العتاب ولن ندخل في طاعتك ابداً فأقض ما انت قاض والسلام(17).
ولم يكتف الامام بنفسه في تقديم النصحية بل كان يرسل ممثلين من قبله ليؤدوا
عنه النصحية كل ذلك حقناً لدماء المسلمين.
أرسل عبد الله بن عباس وقال له: لا تلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه. ويبدو انه كان يائساً من التأثير عليه.
ولكن الق الزبير فانه ألين عريكة فقل له يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وانكرتني بالعراق فما عدا مما بدا.
وقد ذكرنا في فصول سابقة نصيحة جارية بن قدامة السعدي لأم المؤمنين عائشة ونصيحة غلام شاب من بني سعد لطلحة والزبير.
ونصيحة عمران وابو الأسود لطلحة ومن بعد ذلك للزبير. لكن دون أية نتيجة، فقد كان الاصرار على القتال هو القرار الحاسم الذي تمسك به أصحاب الجمل معتقدين بأن الحرب وحدها هي الضمان لتحقيق اهدافهم.
المبدأ الثاني: التحاور
قامت سياسة الامام علي(عليه السلام) على النضال من أجل تحويل الصراع من مواجهة عسكرية الى مواجهة سياسية عبر الحوار والنقاش البناء تجنباً لاراقة الدماء.
وقد أجرى أمير المؤمنين حواراً مطولاً مع طلحة والزبير بصورة مباشرة وجهاً لوجه كما مر ذكره وعبر وسائط وقد ذكر المجلسي نص الحوار المطول الذي دار بين الامام وطلحة والزبير عبر أحد المؤيدين لأصحاب الجمل اسمه خداش(18) وفي نهاية الحوار اكتشف خداش ان الحق مع الامام فلان قلبه وأذعن للحق ثم قال للإمام، والله ما رأيت لحية قط أبين خطأ منك حامل حجة ينقض بعضها بعضاً لم يجعل الله لها سمكاً أنا أبرأ الى الله منها ثم قال له الإمام:
إرجع اليهما واعلمهما ما قلت، قال لا والله حتى نسأل الله أن يردني اليك عاجلاً وأن يوفقني لرضاه فيك ففعل فلم يلبث أن انصرف وقتل معه يوم الجمل(19) وأكثر الامام من محاججة أم المؤمنين عائشة حتى اعترفت لابن عباس قائلة، لا طاقة لي بحجج علي فقال ابن عباس: لا طاقة لك بحجج المخلوق فكيف طاقتك بحجج الخالق(20).
وتعمد الإمام في إرسال بعض أصحابه كزيد بن صوحان وعبد الله بن عباس للمحاججة والحوار ليدع الأمور تجري وفق طبيعتها دون أن تؤثر هيبته على الحوار فقد كان صادقاً في حواراته لا يبتغي منها كسب الوقت ولا المناورة السياسية كما هي اليوم أكثر الحوارات السياسية الدولية.
المبدأ الثالث: المصالحة
رفع الإمام ومنذ الوهلة الأولى شعار المصالحة وتجنب الحرب، فلما اراد المسيرمن الربذة الى البصرة، قام اليه ابن لرفاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين اي شيء تريد واين تذهب بنا فقال أما الذي نريد وننوي فالصلاح ان قبلوا منا وأجابونا اليه.
قال: فان لم يجيبونا اليه؟ قال ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا قال: فان لم يتركونا؟ قال امتنعنا عنهم قال: فنعم إذن(21).
كم هو صبرطويل صبر ابن ابي طالب!! بعد أن قدم النصيحة.. ثم تحاور معهم واحداً واحداً وبعد أن اقروا بالخطأ ثم اصروا على القتال.
بعد كل ذلك، نجد ابن ابي طالب متفائلاً. علهم يذعنون للحق. أو على الأقل يتركون ساحة الحرب. لقد وضع نصب عينيه مهمة تجنب الحرب وسفك الدماء مهما كانت الوسيلة حتى لو كانوا مصرين عليها ويستحقونها.
وهو لم يقف هذا الموقف خوفاً من النزال والطعان فهو إبن المعارك ورجل الحرب. فتلك بدر وأحد والخندق شاهدة على بطولاته. لكن اليوم اصبح اماماً. والإمامة هي الرعاية والشفقة والنظرة الايجابية الى الناس حتى للمخالفين والمنحرفين.
فكان مبدأه السلام والحرب هي آخر الكي.
والدليل على ذلك يقدمه الإمام بشكل عملي فقد جاءه الأحنف بن قيس وهو زعيم من زعماء البصرة قال له الأحنف: اختر مني واحدة من اثنتين إما أن اقاتل معك وإما أن أكشف عنك عشرة آلاف سيف قال: فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال؟ قال إن من الوفاء لله قتالهم (وكان قد وعد أصحاب الجمل الكف عن الحرب)
فقال له الامام، فاكفف عنا عشرة آلاف سيف(22).
وهذه سياسة ثابتة لأمير المؤمنين فقد حاول نزع فتيل الحرب حتى آخر لحظة، وحاول أن لا يكون البادي بالقتال
ولتهدئة الأوضاع أخذ مصحفاً وطلب من يقرأة عليهم. (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصحلوا بينهما! (الآية) فقال مسلم المجاشعي ها أنا ذا فخوفه بقطع يمينه وشماله وقتله فقال لاعليك يا أمير المؤمنين فهذا قليل في ذات الله، فأخذه ودعاهم الى الله فقطعت يده اليمنى فاخذه بيده اليسرى فقطعت فأخذه باسنانه فقتل(23).
الهوامش:
1- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 210.
2- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 210.
3- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 214.
4- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 216.
5- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 218.
6- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 220، الطبري 4/ 475- 476.
7- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 174.
8- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 174، الطبري 4/ 464.
9- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 241.
10- الطبري 4/ 451 الكامل 3/ 221 وابو قتادة الأنصاري والمشهور اسمه الحارث من أصحاب الرسول ذكره ابن حجر في الاصابة في المجلد 4 ص 155 شهد مع رسول الله معركة أحد واختلف في اشتراكه في معركة بدر وقيل أنه حرس النبي يوم بدر فقال فيه رسول الله اللهم احفظ ابا قتادة كما حفظ نبيك هذه الليلة، وكان قد شهد مع الامام علي مشاهده مات بالكوفة وعلي بها سنة 38 (الاصابة في تمييز الصحابة 4/ 155- 156).
11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 221.
12- الدليل 552.
13- الدليل 545.
14- الدليل 539.
15- المجلسي بحار الأنوار 32/ 226.
16- الدليل 551.
17- المجلسي بحار الأنوار 32/ 27 1.
18- لا مجال لذكر الحوار لأنه مطول ومذكور في الجزء32 من بحار الأنوار على الصفحة 128- 129
19- المجلسي بحار الأنوار 32/ 130.
20- المصدر نفسه32/122.
21- الطبري 4/ 479 الكامل في التاريخ 3/ 224.
22- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 239 والأحنف بن قيس(ت 72هـ / 691م) دُعي بالأحنف لالتواء رجليه، ولد في البصرة وأصبح سيد بني تميم فيها وصفه الجاحظ في كتابه(البيان) حث بني تميم على اعتناق الإسلام، وقف موقفاً محايداً في معركة الجمل وانضم إلى صف علي في صفين اشترك في الحملة على المختار توفي بالكوفة.
23- المجلسي بحار الأنوار 32/ 86 1- 87 1.